حتى لا "تغرز" التعهدات!!

سبت, 27/04/2024 - 20:24

يقلل في قوة التعهد والوعد في موروثنا الشعبي "ذيك التنكفارت بعد نعاج" و"فلان كلمته انتيجتو"، وانتظرنا طيلة السنوات الماضية حصاد "تعهداتي" الذي قرأنا ديباجته وأعجبتنا، لكن الضرع نز بأقل مما كنا نأمل أو ربما "غرز" في انتظار توقعاتنا الكبيرة ووقوفنا طويلاً في انتظار ما وعدت به السطور.

سيدي الرئيس.. كانت أمامك فرصة تاريخية حقيقية لصناعة التاريخ، خلال أربع سنوات مضت، وما زال الأمر بيدك لو تداركته خلال السنوات المقبلة، في بلد تعصف به متغيرات كبيرة، وفي مرحلة تحتاج حوافز داخلية توقف الهدر في مقدرتنا ونزيف هجرة شباب بحثاً عن أمل تسلل من بين أيديهم.

لقد كنتُ من الذين جذبتهم نبرتك الهادئة وكياستك الرزينة والالتفاف الذي حصل حولك كرجل للإجماع الوطني، وشدتني تلك التعهدات المعقولة والمنطقية في كتاب حملتك الانتخابي، وتوقعت تحقيقها في سنواتك الأولى، وإن ناكفتك طوارئ دولية فرضتها ظروف جائحة كورونا وتداعياتها العالمية.

لقد دعمت حملتك بل شاركت في تلك الحملة في ندوة انتخابية دعاني لها أصدقاء أعزاء وكنت ضيفا رئيسا الى جانب وزير حالي في حكومتك وسياسيون بارزون أكدت فيها على ثقتي في الفرصة التاريخية لك في بناء غد مختلف لموريتانيا، لأن الظروف والمعطيات لم تعد تسمح بالمزيد من التوقف والجمود في قالب الزمن، وآن لبلد مثل بلدنا أن ينهض.

ومر الوقت، وشاهدت كيف كان التعاطي باردا مع مظاهر فساد جلية في الكثير من المصالح، وكيف استغلت حيتان الدولة العميقة "دماثتك" وهدوءك لتعطيل المصالح فأمنوا العقوبة و أساؤوا الأدب، وقد كان بإمكانك أمام صلابة وتخشب التركيبة السياسية والاجتماعية الموريتانية الخاصة أن تلجأ إلى قطيعة لا مُهادنة فيها وتفعل سرعة الأداء لتفادي بطئٍ طالك وتطبق نظام النمذجة الإدارية.

حبذا لو كنت ابتعثت من كل مرفق فريقا لنقل تجارب متقدمة في بلدان أخرى بحذافيرها وتطبيقها بنظمها الإدارية ووسائل تسييرها، فعلى سبيل المثال وفي المجال العقاري لا يوجد اليوم نموذج واضح للتنظيم العقاري في معاملاته ومبايعته، ما يجعله عرضة للتغرير وضياع المصالح وتضارب جهات الاختصاص وعدم وجود نظام مرجعي جامع متكامل خاص بالأراضي والأملاك والأوراق يضمن الحقوق ويصون المصالح ويعود بالنفع على الدولة ويشجع على الاستثمار ويحمي حقوق الناس.

من خلال خطط بسيطة واستراتيجية تنفيذية واضحة، كان بإمكانك سيدي الرئيس أن تصنع الفرق، فمخطط نواكشوط تمت صياغته ألف مرة، وشطبت المخططات ألف مرة، ومسحت الرسوم ألف مرة!! وأمام كل خطوة تقف مطبات التنفيذ، وقد كان بإمكانك أخذ القرار الجريء، والتفرد بالقرار ولاضير في ذلك لمصلحة، لتغيير الوجه الحضري البائس والتعبير جليا عن بصمتك الخاصة وذوقك الجمالي، فـ"المدن قصائد القادة"..

لقد كان بإمكانك سيدي الرئيس حصر كل الساحات العمومية في نواكشوط وتحويلها الى متنفسات خضراء، ولن يكلفك ذلك ميزانية كبيرة، لكنه سيترك أثرا كبيرا في شكل المدينة ووجهها ونفسيات الناس وإنتاجيتهم وانطباعاتهم عن حكمك،

والأمر ذاته ينطبق على "الكورنيش" المفقود منذ فجر المدينة، و"جسورها" العرجاء التي زرعت في الفراغ، غريبة وعجيبة في محيطها دون أدنى تخطيط حضري أو رؤية جمالية للمستقبل، أما الحديث عن "الترام" أو "ميترو" أو "سكة حديدية" بسيطة تشبك شرايين نواكشوط فهو حلم أقرب للطوباوية!

كان عندك - سيدي الرئيس - الفرصة أيضا للقطيعة النهائية مع كل مخلفات "الرق" السياسي، ولا أقصد بهذا الرق مفهومه المتداول، لكن أقصد به رقاً أخطر يتمثل في هيمنة جماعات الضغط الاجتماعية وأصحاب المصالح واستحكامها في الشأن العام والقرار السياسي، وقد بدأتَ في بواكير عهدك ببدايات حسنة في هذا الشأن، لكن مع اقتراب انتهاء الفترة الأولى، تم مد اللحاف لهذه الجماعات وغض الطرف على مقاس "ديمقراطيتنا" حيث تطلبت المرحلة ضرورة الهدنة ونسج تحالفات أكبر، كانت الانتخابات التشريعية مجرد بروفة أولية لها، استعدادا لاستحقاقات 2024 الرئاسية.

مما قرأت في "تعهداتي" أن جامع نواكشوط الكبير سترتفع مآذنه الأكبر من نوعها في المنطقة في سنواتك الأولى، وأن البنية التحتية للعاصمة ستتغير، وأن المواطنة الموريتانية ستكون حلماً وفخراً في كل مكان من العالم، ومر الوقت ورأيت كيف يخرج آلاف الشباب في هجرات جماعية، هي الأولى من نوعها أيضاً نحو وهم الذهب في عمق الصحراء، وبعد استشراء اليأس كيف عبروا أدغال الآمازون وتسلقوا الجدار الأمريكي بحثاً عن لقمة كريمة، تاركين وراءهم مجتمعاً هشاً من العجزة، تحاصره نخبة فاسدة تضارب في السياسة، تبيعك الكذب والوهم كل نهار وتقايض البسطاء على أصواتهم وحياتهم في كل ليلة، في دوامة سيزيفية لا حياء فيها ولا حياة ولا دواء ولا ماء ولا كهرباء ولا رفاه منشود!!

محمد بابا حامد

صورة